كانت هناك اراء مختلفة بين الباحثين حول وجود الاسواق في العراق القديم فذكر Polanyi ان الاقتصاد في بلاد الرافدين لم يكن اقتصاد سوق ، وهو الاقتصاد الذي يثبت فيه الاسعار استناداً إلى العرض والطلب مباشرةً ، بل ان الاسعار اخذت شكل ما يقابلها ، وانها تثبت من قبل سلطة الدولة.
ويضيف (بولاني) انه لم يكن في المدن العراقية القديمة ساحات واسعة مفتوحة يمكن استخدامها كاسواق . ويؤيد هذا الرأي أيضاً الباحث اوبنهايم . وقد استند بولاني في رايه هذا إلى مقارنة الاقتصاد البابلي بالاقتصاد الفارسي في العصر الاخميني اذ لم يستخدم الفرس الاسواق. غير ان الباحث( هاري ساكز) يرد على ان بولاني قد اغفل الاختلافات الجوهرية بين التكوين الاجتماعي والاقتصادي للفرس الذين كانوا عبارة عن قبائل رحل في حين ان البابلين اهل حضارة تمتد جذورها إلى اكثر من الفي سنة. وقد اثبتت التنقيبات الاثرية خلاف ما ذهب اليه (بولاني واوبنهايم) حيث كشفت عن ساحات واسعة داخل المدن تصلح لاقامة مهرجانات ضخمة في حين كانت هناك ساحات محيطة بمداخل المدن تستخدم كاماكن للاسواق، فيذكر السير( ليونارد وولي) انه تم الكشف عن حارة سكنية في أور تعود للعصر البابلي القديم ، بنيت بيوتها بشكل متراص وتنتشر الدكاكين الصغيرة هنا وهناك مجمعة في اسواق او مشيدة بين الدور تشبه هذه الدكاكين الى حد بعيد المخازن الشرقية الجديدة في السوق اذ تشتمل على غرفة واحدة مفتوحة للعرض تطل على الشارع مع غرفة ثانية او اكثر تقع في القسم الخلفي للدكان لخزن البضائع.
السوق في النصوص المسمارية
وقد ورد السوق في اللغة السومرية بصيغة KI.LAM ويقابلها في اللغة الاكدية mahiru(m) بمعنى: ((سوق)).
وثمة صيغ وعبارات وردت في النصوص المسمارية تؤيد وجود الاسواق اذ نقرأ منها:
inumi PN su-ub-ru-um ištu ma-hi-ri-im
بمعنى : (( عندما PN جلب العبد من السوق…)).
kaspum ina ma-hi-ri-im
بمعنى : (( (هنالك) فضة في السوق)).
فضلاً عن العثور على العديد من النصوص المسمارية التي تشير اشارة صريحة الى لفظة السوق ، حيث جاء في ملحمة كلكامش البابلية، لفظة السوق لمرات عديدة وهذا يدل على وجود الاسواق في مدينة الوركاء حيث جاء في النص ما يلي :.
تعال اقدك الى (اوروك) ذات الاسواق..
لقد خصصوا الطبل الى ملك اوروك ذات الاسواق..
الى كلكامش ملك اوروك ذات الاسواق..
وشاهد الناس كلكامش في دروب (اوروك) ذات الاسواق…
لأجل كلكامش ملك اوروك ذات الاسواق..
…وعندما حل باوروك ذات الاسواق…
…تلاقيا في اوروك ملتقى الاسواق البلاد…
وتجدر الاشارة ان بعض شوارع المدن القديمة اصبحت اسواق للبيع والشراء والمقايضة وخير مثال على ذلك (قصة فقير من نفر) ،اذ يذكر:
ina ri-bit ali-šú Nippuri ki šu-lu-ši-ta i-šá-am enzu
ومعناه (( اشتريت عنزة عمرها ثلاث سنوات في سوق مدينة نفر))
وقد اطلق الاشوريون على كل من مراكزهم التجارية الهامة تسمية ((كاروم:karum)) وجمعها ((كارو:karu)) وهي تسمية اكدية تعني اصلاً في اللغة الاكدية (الرصيف او الحائط) ميناء يقع على نهر او قناة وتجمع عنده ضرائب الدخل على الوارد ، ثم اتسع مفهوم الكاروم ليعني السوق على جانب الرصيف.
إذ ورد ذكر السوق كعنصر من عناصر ازدهار الحياة التجارية في بعض نصوص الحوليات الملكية الآشورية ، نذكر منها على سبيل المثال أحد نصوص الملك شَمَشي اَدَد – الأول في ذكرى تشييده لمعبد الإله انليل في آشور والذي أشار فيه إلى مستوى الأسعار في سوق مدينة آشور فضلا عن تفاخر الملك سين – اخي – ريب في ذكرى إعادة بنائه لمدينة نينوى إذ نجده يقول في أحد نصوصه: “جعلت شوارع أسواقها عريضة كافية لتكون ملكية” .وقد اشارت بعض النصوص المسمارية ان بعض الاتفاقات كانت تبرم عند مداخل المدن ، فكانت احدى بوابات سور نينوى تسمى (بوابة التسلم عند الشراء).
وكان هناك تخصيص في الاسواق وذلك لان المدينة فيها اعداد كبيرة من الناس لهم حرف ومهن مختلفة الذين لم يكونوا من طبقة الموظفين الذين يحق لهم الاعاشة من الدولة ، فمنهم صانعي الفخار والنساجين وصناع الالات والادوات المعدنية وناقشي الاختام والعطارين وبائعي الخمور، والى جانب التجار والباعة والمشترين كان هناك عدد من الاشخاص المساعدين على اكمال عمليات البيع كالكاتب الذي يقوم بتحرير العقد الخاص بالصفقات التجارية الكبيرة او المتضمنة بيع عقار لقاء اجرة معينة ، والوزان المسؤول عن الوزن او كيل المواد المباعة او السمسار الذي يقوم بدور الوسيط للتوفيق بين البائع والمشتري وغيرهم من الاشخاص المساعدين.
اعداد :الدكتوره هند شهاب العبيدي